أفاد تقرير تحليلي صادر عن المجلس الأطلسي (Atlantic Council) بأن قطاع النفط العراقي يشهد تحولاً “غير متوقع”، يتمثل في عودة قوية ومفاجئة لشركات الطاقة الأميركية الكبرى، بعد سنوات من هيمنة الشركات الصينية والأوروبية على المشهد.
وذكر التقرير أنه خلال الشهرين الماضيين فقط، وقعت شركات عملاقة مثل إكسون موبيل (ExxonMobil)، وشيفرون (Chevron)، وHKN، وعملاق الخدمات النفطية KBR صفقات رئيسية مع الحكومة في بغداد. وفي موازاة ذلك، تقوم شركة جنرال إلكتريك فيرنوفا (GE Vernova) بتوسيع عملياتها في قطاع الكهرباء العراقي.
لكن التقرير حذر من أن هذه العودة، رغم ما تحمله من فرص تجارية هائلة، “تظل محفوفة بمخاطر سياسية جسيمة قد تقوض ثروات هذه الشركات بين عشية وضحاها”، مع اقتراب موعد الانتخابات العراقية.
ويشير المجلس الأطلسي إلى أن توقيت هذا النشاط المفاجئ ليس وليد صدفة. فالأمر يعكس، جزئياً على الأقل، “رقصة سياسية محسوبة” بين بغداد وواشنطن. و”يبدو أن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، قد اكتشف ما تعلمته حكومة إقليم كوردستان منذ زمن طويل: أن صفقات النفط والغاز هي أداة فعالة لشراء النفوذ السياسي في واشنطن”.
كما يأمل السوداني، بحسب التحليل، بأن تضمن له هذه الصفقات الجديدة دعماً أميركياً حاسماً في مسعاه للفوز بولاية ثانية.
لماذا الآن؟.. منطق تجاري وعقود “مختلفة جوهرياً”
بالنسبة للشركات الأميركية، فإن المنطق التجاري واضح ومباشر. يقدم العراق واحداً من أرخص أنواع النفط إنتاجاً في العالم، وباحتياطيات هائلة، وهو ما يمثل “واحدة من آخر الفرص العظيمة” لشركات النفط الدولية الكبرى التي تواجه نضوبًا في أماكن أخرى.
وهناك دافع إضافي، خاصة لشركتي إكسون موبيل وشيفرون، يتمثل في سعيهما لتأمين “بوليصة تأمين” ضد أي مشاكل محتملة في استثماراتهما الضخمة في كازاخستان، حيث تواجه الشركتان ضغوطًا حكومية هناك لتعديل العقود. وفي حال واجهت استثماراتهما صعوبات، فإن الإنتاج العراقي سيوفر “دعماً احتياطياً حاسماً”.
لكن تقرير المجلس الأطلسي، يشدّد على أن “ما غيّر قواعد اللعبة حقاً” هو العقود الجديدة المعروضة. فالاتفاقيات القديمة، المعروفة بـ “اتفاقيات الخدمة الفنية” التي طُرحت عام 2009، كانت منفرة للمستثمرين الأميركيين بسبب رسومها المحددة لكل برميل وهامش ربحها المحدود للغاية، وهو ما دفع شركات مثل شيفرون للمغادرة سابقاً.
أما الصفقات الأخيرة، فهي “مختلفة جوهرياً”. لقد تم التفاوض عليها مباشرة مع وزارة النفط العراقية بناءً على صيغة تعاقدية تمنح الشركات حصة أكبر من إجمالي الأرباح، والأهم من ذلك، تمنحها إمكانية الوصول إلى براميل فعلية من الخام يمكنها المتاجرة بها لصالحها، وهو ما يغير نموذج الربحية بالكامل.
حسابات بغداد: النجاة السياسية و”بطاقة النفط”
لا تروي الاعتبارات التجارية سوى نصف القصة. إذ يوضح التقرير أن اندفاع السوداني لتوقيع هذه الصفقات يتعلق في الأساس “بالبقاء السياسي”، له وللعراق.
“فمن ناحية، يستخدم السوداني هذه الصفقات كجزء من أجندته الاستثمارية الطموحة، لتقديم صورة(الإداري الفعال) للشعب العراقي، وهو ما يحتاجه بشدة لدعم زخمه السياسي قبل الانتخابات المقبلة. ومن ناحية أخرى، تكشف هذه التحركات عن (مخاوف أعمق) في بغداد. وقد أثارت التوترات المتصاعدة مع واشنطن بشأن علاقات العراق طويلة الأمد مع إيران (بما في ذلك مزاعم تهريب الخام الإيراني) خوفاً حقيقياً من إمكانية فرض عقوبات أميركية على صناعة النفط العراقية، التي تعد شريان الحياة الاقتصادي للبلاد”، وفق ما جاء بالتقرير.
كما تخشى الحكومة العراقية من ضربات عسكرية إسرائيلية محتملة ضد الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وتعتقد أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على كبح جماح إسرائيل.
لذلك، يسعى السوداني لمخاطبة “الغرائز التجارية” لإدارة ترامب عبر تقديم ما تقدره كثيراً: الفرص التجارية للشركات الأميركية. الاستراتيجية، كما يصفها التقرير، مستعارة مباشرة من “دليل” حكومة إقليم كوردستان؛ حيث يراهن السوداني على أن الشركات الأميركية التي ستستثمر مليارات الدولارات ستتحول إلى “جماعات ضغط” (لوبي) بحكم الأمر الواقع في واشنطن، تدافع عن بغداد ضد أي سياسات قد تزعزع استقرار استثماراتها.
كما حذر المجلس الأطلسي من أن كل هذه المكتسبات قد تتبخر اعتماداً على نتائج الانتخابات العراقية المقبلة في نوفمبر، وما يتبعها من “سيرك تشكيل الحكومة الفوضوي” المتوقع.
يصف التقرير السوداني بأنه “رئيس الوزراء العراقي الأكثر فعالية إدارياً منذ عام 2003″، حيث نجح من خلال الإشراف الشخصي في تسريع المفاوضات ودفع الصفقات إلى الإنجاز. وأن رحيل السوداني، حتى لو لم ينهِ جهود جذب الاستثمار، فإنه ينذر بعودة “عدم الفعالية الإدارية” و”المشاكل البيروقراطية” و”الجمود” الذي كان السمة السائدة في الحكومات السابقة، وهو ذات السبب الذي دفع هذه الشركات للهروب من العراق في المقام الأول.
يختتم المجلس الأطلسي تقريره بالقول إن “العوامل فوق الأرضية” – أي السياسة، والشخصيات، وطبيعة العلاقات الأميركية العراقية – ستظل دائماً أكثر أهمية من الجيولوجيا أو الشروط التجارية المغرية في العراق.
لقد خلق السوداني “نافذة من الفرص”، ولكن النوافذ في العراق “لديها عادة أن تُغلق فجأة وبشكل غير متوقع”. وإن الشركات الأميركية العائدة تراهن على أن الرياح السياسية ستظل مواتية، وربما تراهن على بقاء السوداني نفسه.
إنها “مقامرة”، بحسب التقرير، لأن المرحلة التالية من السياسة العراقية غامضة. والسؤال ليس ما إذا كان العراق يقدم فرصاً جذابة (وهو كذلك)، بل كيف ستتكشف المخاطر السياسية لتشكيل بيئة الاستثمار خلال العام المقبل؟.